الدكتور محمود الحصري يكتب: نصوص الأهرام.. حجر الأساس للفكر الديني الجنائزي في مصر القديمة
في نهاية الدولة القديمة، نُقشت جدران الحجرات الداخلية وممرات الأهرامات المصرية القديمة بسلسلة من الطقوس والتعاويذ السحرية، والمعروفة في الدراسات الحديثة باسم نصوص الأهرامات Pyramid Texts. تُشكل هذه النقوش أقدم مجموعة من الكتابات الدينية المصرية؛ وهي عادةً ما تكون أدبية في شكلها ولغتها، كما أنها أقدم ممثلي الأدب المصري.
وتُعد نصوص الأهرامات مصادر أساسية لتاريخ الفكر المصري القديم وعلاقته بالعالم التوراتي. وقد نحتت نصوص الأهرام باللغة المصرية القديمة على جدران الأهرام والتوابيت الحجرية في أهرامات سقارة خلال عصري الأسرتين الخامسة والسادسة. ويرجع تاريخ أقدم تلك النصوص إلى بين عامي 2400-2300 ق.م.
وخلافًا لنصوص التوابيت وكتاب الموتى، استخدمت نصوص الأهرام للملوك المصريين القدماء فقط. بعد حجر باليرمو الذي يؤرخ بنهاية الأسرة الخامسة، وتعد نصوص الأهرام ثاني أقدم النصوص التي تذكر أوزوريس، الذي أصبح أهم آلهة الحياة الآخرة في الديانة المصرية القديمة. وكان الهدف من نصوص الأهرام هو حماية جسد الفرعون، وإحياء جسده بعد الموت ومساعدته على الوصول إلى الجنة في حياته الآخرة. كما تستخدم أيضاً لطلب مساعدة الآلهة. وقد عُثر على نصوص الأهرام في مقابر 11 ملك وملكة في منطقة سقارة، جبانة عاصمة المملكة القديمة المسماة "منف" وهم :
الملك أونيس/أوناس Unas (الأسرة الخامسة، حوالي 2353-2323 قبل الميلاد)
الملك تيتي Teti (الأسرة السادسة، حوالي 2323-2291 قبل الميلاد)
الملك بيبي الأول Pepi I (الأسرة السادسة، حوالي 2289-2255 قبل الميلاد)
الملكة عنخ إسن بيبي الثانية Akhesenpepi II (الأسرة السادسة) زوجة بيبي الأول
الملك مرن رع Merenre Nemtyemsaf I (الأسرة السادسة، حوالي 2255-2246 قبل الميلاد)
الملك بيبي الثاني Pepi II (الأسرة السادسة، حوالي 2246-2152 قبل الميلاد)
الملكة نيث Neith (الأسرة السادسة)، زوجة بيبي الثاني.
الملكة إيبوت الثانية Iput II (الأسرة السادسة)، زوجة بيبي الثاني.
الملكة ودجبتني Udjebten or Wedjebten (الأسرة السادسة)، زوجة بيبي الثاني.
الملكة بهينو Behenu (الأسرة السادسة)، من المحتمل أن تكون زوجة بيبي الثاني.
الملك إيبي (قا-كا-رع) (الأسرة الثامنة) العصر الانتقالي الأول حوالي 2109-2107 قبل الميلاد.
أهمية نصوص الأهرام في الفكر الديني المصري القديم :
تُعد نصوص الأهرام أقدم نص ديني جنائزي متكامل وصل إلينا من الحضارة المصرية القديمة، وتمثّل المرحلة الأولى في تطوّر الأدب الديني المرتبط بالموت والبعث. وقد ظهرت هذه النصوص لأول مرة منقوشة على جدران الحجرات الداخلية لهرم الملك ونيس (Unis) آخر ملوك الأسرة الخامسة (نحو 2350 ق.م)، ثم استُخدمت لاحقًا في أهرام ملوك الأسرة السادسة مثل تيتي، بيبي الأول، مر-إن-رع، وبيبي الثاني، إضافة إلى بعض الملكات.
متى ظهرت نصوص الأهرام وأصلها؟
على الرغم من أن أول ظهور مادي لنصوص الأهرام كان في نهاية الدولة القديمة، فإن التحليل اللغوي والديني يثبت أن كثيرًا منها أقدم بكثير، وربما يعود إلى نهاية الأسرة الرابعة أو قبل ذلك. حيث أن لغتها تمثل مرحلة قديمة من اللغة المصرية لم تعد مستخدمة في النقوش الدنيوية المعاصرة لنقشها، كما تعكس طقوسًا جنائزية ومفاهيم معمارية أقدم من زمن ونيس نفسه. وهذا يدل على أن نصوص الأهرام لم تُؤلف دفعة واحدة، بل كانت تراثًا شفهيًا وطقسيًا متراكمًا، جرى تدوينه ونقشه داخل الأهرام في مرحلة لاحقة.
طبيعة نصوص الأهرام ومحتواها :
تتكون نصوص الأهرام من تعاويذ Spells متفاوتة الطول، نُقشت غالبًا في أعمدة رأسية على الجدران الداخلية لحجرة الدفن والدهاليز. وقد صُممت هذه التعاويذ لتُتلى في سياق طقسي، ويبدأ معظمها بعبارة تعني “تلاوة” أو “إنشاد”.
تنقسم هذه النصوص من حيث الوظيفة إلى نوعين رئيسيين:
نصوص طقسية: كانت تُتلى بواسطة الكهنة أثناء الشعائر الجنائزية، مثل طقوس القرابين، وفتح الفم، وإحياء الجسد.
نصوص شخصية: صيغت غالبًا بضمير المتكلم، وتُعبّر عن صوت المتوفى نفسه في رحلته بعد الموت، وتهدف إلى حمايته من الأخطار، وتمكينه من الصعود إلى السماء والاتحاد بالآلهة.
وظيفة نصوص الأهرام في العقيدة المصرية :
الغاية الأساسية من نصوص الأهرام هي تحويل المتوفى إلى "آخ" (Akh)، أي كائن فعّال خالد قادر على الحياة الأبدية في عالم الآلهة. وتقوم هذه الفكرة على التصور المصري للإنسان باعتباره مكوَّنًا من:
الجسد The body
الكا (Ka): قوة الحياة.
البا (Ba): الشخصية أو الروح المتحركة.
وبعد الموت، ينفصل الكا عن الجسد، وتصبح مهمة النصوص هي تمكين البا من العودة والاتحاد بالكا، وهو ما يؤدي إلى ولادة “الآخ”. ومن خلال التعاويذ، يُشبه الملك المتوفى بالشمس في رحلتها اليومية، وبأوزير في موته وقيامته، فيتحقق له الخلود حيث :
تلعب الشمس وأوزير دورًا محوريًا في هذا التصور:
الشمس تمثل دورة الحياة اليومية (الميلاد، الموت، البعث).
أوزير يمثل قوة التجدد والبعث الكامنة في الموت ذاته.
الطابع الملكي لنصوص الأهرام :
اقتصرت نصوص الأهرام في الدولة القديمة على الملوك فقط، وهو ما يعكس تصورًا حصريًا للخلود السماوي بوصفه امتيازًا ملكيًا. ومع ذلك تكشف النصوص نفسها عن أنها لم تُؤلف أصلًا للملك وحده، إذ كُتبت كثير من التعاويذ بصيغة عامة، مع تعليمات تُشير إلى موضع إدخال اسم المتوفى، مما يدل على أن هذه النصوص كانت قابلة للتخصيص.
الفرق بين نصوص الأهرام ونصوص التوابيت :
مع نهاية الدولة القديمة وبداية الدولة الوسطى، ظهرت نصوص التوابيت، وهي تمثل المرحلة الثانية في تطور الأدب الجنائزي المصري. حيث تعد نصوص الأهرام حصرية للملوك منقوشة على جدران الأهرام. أما نصوص التوابيت فكانت متاحة للنبلاء وكبار الموظفين مكتوبة داخل التوابيت. كما أن نصوص التوابيت توسّع مفاهيم الخلود، وتُدخل عناصر أخلاقية وتصورات أكثر تفصيلًا عن العالم الآخر، لكنها في جوهرها امتداد وتطوير لنصوص الأهرام.
الفرق بين نصوص الأهرام وكتب العالم الآخر (كتاب الموتى) :
في الدولة الحديثة، تطورت التقاليد الجنائزية إلى ما يُعرف بـ كتب العالم الآخر، وأشهرها كتاب الموتى. حيث أن كتاب الموتى نص أكثر تنظيمًا، يركز على المحاكمة الأخلاقية، وميزان القلب، والحياة في حقول الإيارو. أما نصوص الأهرام فهي أقل سردية وأكثر طقسية، وتركّز على الصعود السماوي والاتحاد بالآلهة. وعلي الرغم من ذلك فإن الكثير من تعاويذ كتاب الموتى ترجع في أصلها إلى نصوص الأهرام، مما يؤكد الاستمرارية الدينية عبر العصور.
ولهذا فإن نصوص الأهرام هي حجر الأساس للفكر الديني الجنائزي في مصر القديمة، ومنها انطلقت نصوص التوابيت وكتب العالم الآخر. وعلى الرغم من طابعها الملكي، فإنها تعبّر عن رؤية كونية شاملة للحياة والموت، استمرت وتطورت عبر أكثر من ألفي عام من الحضارة المصرية، دون أن تفقد جوهرها القائم على فكرة الموت بوصفه بداية جديدة للحياة.




















