إبراهيم نصر يكتب: التصوف الحق.. وانحرافات الأدعياء

التصوف الحق، أو مدرسة الزهد والسلوك، يمثل في جوهره أرقى درجات السعي الإنساني نحو "الإحسان"؛ وهو أن تعبد الله كأنك تراه. إنه ليس مذهبا فقهيا أو مجموعة من الطقوس الظاهرية، بل هو علم تطهير القلوب وتهذيب النفوس، والانخراط في الحياة الدنيا بقلب متعلق بالآخرة. أما الزهد، فليس يعني الفقر أو ترك الدنيا، بل يعني "زهد القلب" في كل ما هو زائل، وتسخير الماديات لخدمة الروح والغايات السامية.
لكن للأسف، مع مرور الزمن، تراكمت على هذه الحقيقة الناصعة شوائب عارضة، تجسدت بشكل مؤلم في بعض مظاهر احتفالات الموالد التي تقام لأولياء الله الصالحين. هذه المظاهر، التي لا يقرها شرع ولا عقل، أصبحت تشكل إحراجا كبيرا وتسيء إلى صورة التصوف الحق والتدين الحقيقى في نظر الجمهور الواعي.
لقد كان هدف الصوفية الأوائل هو "السفر إلى الله" بالتقوى والمجاهدة، والتحلي بصدق النية، والزهد في الشهرة والمظاهر. فكان الولاء والانتماء لديهم قائما على الحب الإلهي والاتباع الدقيق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إن كرامة الولي الحقيقية تكمن في استقامته وأخلاقه وعلمه، لا في قدرته المزعومة على خرق العادات أو إظهار الكرامات. أما ما نشاهده في العديد من الموالد، فهو تحويل هذه المناسبة الروحية إلى مهرجان صاخب يطغى عليه ظهور أدعياء للمشيخة والولاية يستغلون بساطة بعض الناس وسذاجتهم للحصول على المال، ويصدرون فتاوى أو ممارسات لا تمت للدين بصلة، ناهيك عن الاختلاط غير المنضبط بين الجنسين، وشطحات حركية (كبعض أنواع الرقص) تتحول إلى فوضى لا تتفق مع جوهر الذكر والعبادة.
إن الذين يرفضون هذه المظاهر المسيئة ليسوا "أعداء" للتصوف أو الأولياء، بل هم مدافعون عن حقيقة الدين النقي والتصوف الراقى، وعن سيرة أولئك الأولياء الصالحين الذين عاشوا حياتهم بعيدا عن صخب الدنيا ومظاهرها.
وبالعودة إلى أقوال كبار أئمة التصوف نجدها تثبت براءتهم الكاملة من هذه السلبيات المحدثة. فالإمام الجنيد البغدادي، كان يقول: "الطريق إلى الله مسدود إلا على المقتفين آثار الرسول". والإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه "إحياء علوم الدين"، نبذ بقوة كل مظاهر الشطح والتهريج التي لا تتوافق مع الشرع.
وفي العصر الحديث، تصدى كبار المشايخ المعتبرين لهذه المظاهر، محذرين من تفريغ التصوف من محتواه الحقيقي. فقد نادى الأئمة والمجددون بضرورة تطهير الموالد من الدخيل، مؤكدين أن الكرامة الحقيقية هي الاستقامة، وأن الولاية لا تنال بالخوارق، بل بالالتزام الصارم بالكتاب والسنة والآداب الشرعية. هم يرون أن هذه الممارسات المشينة تسيء إلى سيرة الأولياء الصالحين وتضعهم في موضع اتهام هم براء منه.
إن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، وتقع كذلك على شيوخ الطرق الصوفية الحقيقيين، لإطلاق حملات تصحيح وتوجيه شاملة، ويجب التمييز بوضوح بين الاحتفال بذكرى الصالحين بالدعاء والذكر وقراءة السيرة، وبين الممارسات الدخيلة التي تلوث صفاء القلوب، وينبغى تحويل الموالد إلى ملتقيات علمية تركز على الأخلاق والزهد الحقيقي والجهاد الأكبر "جهاد النفس"، لا مجرد حلقات إنشاد دون وعي. ويجب علينا أن نعمل جميعاً على إنقاذ هذه الروحانيات النبيلة من الأفعال المشوهة التي تضعها في قفص الاتهام، مع التأكيد على أن أعظم كرامات الولي هي اتباع السنة، وليس مخالفتها.
[email protected]