الدكتور أحمد عبود يكتب: رجال لها تاريخ (1).. القعقاع بن عمرو التميمي - سيف يُلهم الأجيال

في صفحات التاريخ الإسلامي رجالٌ لا يُذكرون بكثرة، لكن آثارهم لا تُنسى، ومن هؤلاء القعقاع بن عمرو التميمي، الفارس الذي كان يُقال عنه: "لا يُهزم جيش فيه القعقاع". لم يكن مجرد محارب، بل كان مدرسة في الفروسية والدهاء والصلابة، وأصبح رمزًا يُضرب به المثل في الشجاعة والحكمة. وُلد القعقاع في قبيلة تميم، وأسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وشارك في أعظم معارك الإسلام خلال خلافتي أبي بكر وعمر، وكان سيفًا من سيوف الفتح الإسلامي في العراق والشام.
أبرز معاركه كانت في معركة القادسية، حين أرسله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنجدة المسلمين أمام جيوش الفرس بقيادة رستم. لم يكن القعقاع مجرد مقاتل، بل كان مفاجأة المعركة. دخل الميدان على رأس فرقة صغيرة لكنه خطط لخطة بارعة: أمر أصحابه بالدخول تباعًا، جماعة بعد جماعة، وكأنها تعزيزات لا تنتهي، ما بثّ الرعب في قلوب الفرس، ورفع الروح المعنوية للمسلمين. وكانت كلماته تُلهب القلوب، وتحرك السيوف، وتزرع اليقين بالنصر. كان يُكثر من التكبير، ويرفع صوته في الناس، ويشعل الحماسة، حتى قال عنه بعض القادة: "صوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل".
وفي معركة جلولاء، واصل القعقاع دوره البطولي، فكان في طليعة المهاجمين، يفتك بأعداء الله، ويقود جنوده بثبات وثقة. لم يكن قتاله اندفاعًا بلا عقل، بل كان يقاتل بعين القائد وحكمة العارف، يعرف متى يضرب، ومتى يتراجع، ومتى يُوهم العدو بالنصر ليفاجئه بالهزيمة.
وليس الغرض من الحديث عن القعقاع تمجيد الماضي فقط، بل لاستخلاص العبر. فقد علمنا أن النصر لا يكون بعدد، بل بالإيمان، والعزيمة، والحكمة. القعقاع لم يكن أكثر عددًا من خصومه، لكنه كان أكثرهم يقينًا وثقة بالله، وأشدهم إدراكًا لمعنى القيادة وتأثير الكلمة في المعركة.
كما يُعلّمنا أن الصوت القوي، إن كان صادقًا، يُحرك الجيوش ويصنع الفارق، وأن الحيلة الذكية قد تهزم جيشًا يفوقك عدّة وعتادًا.
اليوم، نحتاج إلى روح القعقاع لا في المعارك فقط، بل في كل ميادين الحياة. نحتاجها في ساحات التعليم، والإصلاح، والحق، والعدالة. نحتاج إلى من يرفع صوته بالحق ويُلهم من حوله، لا يهاب الخصم، ولا يتراجع عن الهدف.ه
القعقاع بن عمرو التميمي لم يمت، بل يعيش في كل رجل لا يعرف اليأس، ويقاتل من أجل الحق، ويقود بروح النصر… هؤلاء هم "رجال لها تاريخ".