هي وهما
هي وهما

ملفات

نقاشات استراتيجية حول فلسطين والعراق والبوسنة والنووي

عاجل وسري| وثيقة بريطانية سرية تكشف تفاصيل محورية عن زيارة عمرو موسى إلى لندن عام 1994

-

كشفت إحدى الوثائق البريطانية، التي صُنّفت تحت بند "عاجل وسري"، وأفرج عنها أخيراً، عن تفاصيل دقيقة بشأن محادثات أجراها عمرو موسى مع نظيره البريطاني دوغلاس هوغ يومي 20 و21 أكتوبر 1994.

وما كان لافتاً فيها، إنها لا تسجل فقط مواقف دبلوماسية بل تُظهِر حوارات صريحة ونقاشات استراتيجية تمس قضايا محورية مثل العراق، الكويت، القضية الفلسطينية، البوسنة، السلاح النووي، وأدوار مصر الإقليمية في المتوسط وأفريقيا.

وسط عالم يوشك على إعادة تعريف مفاهيم التحالفات والقوة بعد نهاية الحرب الباردة، جاءت زيارة وزير الخارجية المصري عمرو موسى إلى لندن عام 1994 كعلامة فارقة في المشهد الدبلوماسي للشرق الأوسط. لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل كانت انعكاساً لتحولات عميقة تشهدها المنطقة والعالم، وفرصة أعادت من خلالها القاهرة التموضع كفاعل إقليمي يمتلك هامش مناورة واسعاً في بيئة دولية جديدة تتسم بالتعددية والتقلب.

في ظل تحوّلات جيوسياسية كبرى، أبرزها انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة كقوة أحادية، كانت الدول الإقليمية تبحث عن إعادة تعريف لأدوارها. أما مصر، التي خرجت من الثمانينيات بإرث من سياسات الانكفاء والانشغال بالملف الداخلي، فقد رأت في التسعينيات بداية لعودة محسوبة إلى الساحة الدولية، وزيارة موسى إلى بريطانيا جاءت تتويجاً لهذا المسعى.

"فلسطين" ووساطة محفوفة بالأخطار

كشفت إحدى الوثائق البريطانية، التي صُنّفت تحت بند "عاجل وسري"، وأفرج عنها أخيراً، عن تفاصيل دقيقة بشأن محادثات أجراها عمرو موسى (تولي وزارة الخارجية المصرية في الفترة ما بين 1991 و2001) مع نظيره البريطاني دوغلاس هوغ يومي 20 و21 أكتوبر (تشرين الأول) 1994. وُجّهت الوثيقة من وزارة الخارجية البريطانية (FCO) إلى سفاراتها في العواصم المؤثرة، بما في ذلك واشنطن ونيويورك، لتوضح كيف كانت القاهرة تُعيد هندسة علاقاتها الدولية وفق رؤية واقعية جديدة.

1.JPG

وما كان لافتاً في تلك الوثيقة، إنها لا تسجل فقط مواقف دبلوماسية بل تُظهِر حوارات صريحة ونقاشات استراتيجية تمس قضايا محورية مثل العراق، الكويت، القضية الفلسطينية، البوسنة، السلاح النووي، وأدوار مصر الإقليمية في المتوسط وأفريقيا.

وعلى صعيد القضية الفلسطينية، جاءت زيارة عمرو موسى إلى لندن في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة للعملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي كانت آنذاك تمر بأول اختباراتها الجدية منذ توقيع اتفاق أوسلو في 1993، وكان التفجير الذي وقع في تل أبيب، ونُسب إلى حركة "حماس"، فجّر موجة من التوتر والغضب في الداخل الإسرائيلي، وأثار شكوكاً دولية حول مدى قدرة السلطة الفلسطينية الوليدة على فرض السيطرة على الجماعات الرافضة للتسوية.

في هذا المناخ المشحون، تبنّى موسى خطاباً متوازناً، لكنه غير تقليدي. فعلى رغم إدانته الصريحة لكل أعمال العنف، سواء صدرت عن الفلسطينيين أو الإسرائيليين، فإنه لم يتردد في توجيه انتقادات واضحة للردود الإسرائيلية القمعية، وعلى رأسها إغلاق الأراضي الفلسطينية، وتوسيع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة. موسى وصف هذه الإجراءات بأنها "لا تُفضي إلى التهدئة، بل تُغذّي مشاعر الغضب والانقسام"، معتبراً أن العقوبات الجماعية لا تُعاقب الفاعلين بل تُعاقب شعباً بأكمله.

وقد طرح موسى في اللقاء مقترحين غير تقليديين، يكشفان عن رؤية استراتيجية متقدمة، تضمنان منع تمويل "حماس" من جهات خارجية، بما في ذلك دول غربية وعربية، في خطوة تهدف إلى تجفيف مصادر الدعم غير الرسمي للحركة، التي كانت آنذاك تُصنّف باعتبارها فاعلاً غير منضبط داخل النظام السياسي الفلسطيني. وفرض رقابة صارمة على المستوطنين الإسرائيليين، واصفاً إياهم بـ"القنبلة الموقوتة"، في توصيف جريء لم يكن شائعاً في الخطاب السياسي الدولي آنذاك، حيث كان يُنظر إلى الاستيطان على أنه قضية هامشية مقارنة بما يُصنّف كـ"إرهاب فلسطيني".

ما قدّمه موسى في تلك اللحظة لم يكن مجرد مساهمة فنية في النقاش، بل موقف سياسي يعكس تحوّلاً في النظرة المصرية إلى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. فمصر، بوصفها الوسيط التاريخي، لم تعد تكتفي بلعب دور القناة الخلفية للمفاوضات، بل بدأت تُعيد صياغة أولويات الملف، لتُبرز دور الاستيطان الإسرائيلي كعنصر أساسي في زعزعة الاستقرار، وتُسلّط الضوء على خطورة الجماعات المتطرفة من كلا الجانبين.

3.JPG

النص يسلط الضوء على جهود مصر والمملكة المتحدة لدعم عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين رغم التحديات

وبينما كانت الدول الغربية تُحمّل القيادة الفلسطينية وحدها مسؤولية ضبط الوضع الأمني، شدد موسى على أن استمرار توسيع المستوطنات، واقتحامات الجيش الإسرائيلي، وفرض الإغلاق على المدن الفلسطينية، كلّها تمثّل عوامل تؤدي إلى انفجار متكرر في الساحة، يُقوّض فرص التقدم في المفاوضات.

من جهة أخرى، أيّد الوزير البريطاني هوغ دعم مكانة ياسر عرفات كزعيم شرعي للمرحلة الانتقالية، مطالباً في المقابل بتعزيز الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهي نقطة التقت فيها وجهتا النظر المصرية والبريطانية، وإن اختلفتا في ترتيب الأولويات.

القاهرة ومحاولة هندسة علاقاتها الخارجية

في ما يتعلق بالملف العراقي، جاءت مواقف وزير الخارجية المصري عمرو موسى مزيجاً دقيقاً من الحذر الاستراتيجي والواقعية السياسية، في لحظة كان فيها الشرق الأوسط بأكمله يعيش على وقع توازن هش بين الأمن القومي والمآسي الإنسانية. بعد ثلاث سنوات فقط من انتهاء حرب الخليج الثانية، كانت تداعيات الحصار الاقتصادي المفروض على العراق تزداد وضوحاً، ومعها كانت تزداد تعقيدات الموقف العربي والدولي تجاه بغداد.

في محادثاته مع المسؤولين البريطانيين، لم يتردد موسى في تأكيد دعم مصر للموقف الدولي المعادي لسلوك نظام صدام حسين، لا سيما في ما يتعلق بعدم امتثاله لقرارات مجلس الأمن، واستمراره في تبني سياسات قمعية داخلياً. لكنه في الوقت ذاته، قدّم رؤية مختلفة وأكثر توازناً مما كانت تطرحه بعض العواصم الغربية، محذراً من أن الإفراط في الضغط قد لا يُفضي إلى إصلاح النظام، بل إلى انهيار شامل للدولة العراقية بمؤسساتها وبناها التحتية، وهو سيناريو وصفه موسى بأنه "أكثر خطورة من بقاء النظام نفسه".

وقد جاء في عبارته الشهيرة، كما وردت في الوثيقة السرية التي أعدّتها وزارة الخارجية البريطانية: "قمع النظام يجب أن يكون في صلب الخطاب الدولي، لكن من دون أن نتيح المجال لانهيار الدولة العراقية."

2.JPG

النص يناقش تنسيق المواقف حول العراق مع التركيز على العقوبات وقضايا القمع بشرط الحفاظ على وحدة العراق ومراعاة الرأي العام العربي

ولم يكن هذا التصريح مجرد موقف دبلوماسي، بل تعبير صريح عن فلسفة مصرية في التعامل مع الأزمات الإقليمية، تقوم على رفض السياسات العقابية المفتوحة التي لا تميّز بين الأنظمة والشعوب، بخاصة في دول مركزية مثل العراق، التي يشكّل انهيارها تهديداً مباشراً على التوازن الإقليمي برمّته.

عمرو موسى، عبّر عن دعمه للقرارات الأممية ذات الصلة، لكنه طالب بمراجعة القرارين 706 و712 اللذين سمحا للعراق ببيع كمية محدودة من النفط لشراء الغذاء والدواء، في خطوة إنسانية قُدّمت على استحياء آنذاك. كما رأى موسى أن تطبيق هذه القرارات كان بيروقراطياً وبطيئاً، وأن الشعب العراقي يدفع ثمناً باهظاً لحسابات سياسية معقّدة، في ظل انهيار شبه كامل للخدمات الأساسية في البلاد.

ومن خلال هذا الطرح، بدأ موسى وكأنه يستبق الكارثة الإنسانية التي ستتفاقم لاحقاً خلال التسعينيات، والتي سجّلت الأمم المتحدة خلالها أرقاماً صادمة لعدد وفيات الأطفال وانتشار الأمراض وسوء التغذية في العراق المحاصر.

في المحصلة، لم يكن الموقف المصري "رمادياً" كما اتهمته بعض الأطراف، بل مدروساً وواقعياً، يُحافظ على وحدة العراق، ويرفض التفكك، من دون أن يُقدّم غطاءً لنظام سياسي فقد شرعيته لدى معظم مكونات المجتمع الدولي. لقد عكست مواقف موسى إدراكاً مبكراً بأن البديل عن الدولة العراقية لم يكن الديمقراطية، بل الفوضى- وهي نبوءة أثبتت صدقيتها في السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق عام 2003.

العدالة الدولية تولد من رحم الحرب بالبوسنة

وفي امتداد للبعد الدولي للزيارة، ناقش الطرفان الأزمة في البوسنة، حيث عبّر موسى عن دعم مصر الصريح لسيادة الدولة البوسنية، ورفضه لمقترحات التقسيم أو الكونفيدرالية من دون اعتراف دولي واضح.

4.JPG

النص يوضح توافقًا مصريًا بريطانيًا حول ضرورة اعتراف صرب البوسنة بالبوسنة كما يبرز موقف مصر الرافض لتجديد معاهدة حظر الانتشار دون تحرك إسرائيلي

اللافت أن موسى شدد على أهمية ملاحقة مجرمي الحرب، في انسجام نادر بين خطاب أخلاقي وسياسة براغماتية. وامتد النقاش ليشيد بعمل القاضي ريتشارد غولدستون، ما يسلّط الضوء على إدراك مصري- بريطاني مشترك بأهمية بناء نظام عدالة دولية جديد يضع حداً للإفلات من العقاب.

خطوط مصر الحمراء في الملف النووي

من أكثر الملفات حساسية في تلك المحادثات كان موقف مصر من معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT). حيث رفض موسى تجديد المعاهدة إلى أجل غير مسمى من دون موقف واضح من إسرائيل، التي كانت ولا تزال ترفض الكشف عن برنامجها النووي.

لكن، وفي لفتة ذكية، أعلن موسى استعداد بلاده لدعم معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (CTB)، حتى في ظل الرفض الإسرائيلي، في رسالة تفيد بأن مصر تُميز بين معاهدات تفرض التزامات عامة على المجتمع الدولي، وأخرى تُستخدم أداة ضغط سياسي في بيئة إقليمية مختلّة.

في مؤشر على تبدّل أولويات القاهرة، تطرق موسى إلى مبادرة لبناء تعاون متوسطي لا يقتصر على الدول الساحلية، بل يشمل تفعيل دور مصر ضمن مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE).

ورحّب البريطانيون بالفكرة، واقترحوا مناقشتها في زيارة رسمية لاحقة إلى القاهرة، مما يعكس تحوّل مصر من مجرد متلقٍّ للمبادرات الغربية إلى شريك فاعل في صياغتها.

تكشف هذه الزيارة عن دبلوماسية ناضجة تُوازن بين المبادئ والمصالح، تقودها شخصية مثل عمرو موسى، الذي جمع بين الحكمة السياسية والمرونة الدبلوماسية. كان موسى يدرك آنذاك أن زمن الشعارات الكبرى قد ولّى، وأن من يريد التأثير في العالم الجديد يجب أن يجلس إلى الطاولة لا أن يصرخ من بعيد.