هي وهما
هي وهما

آراء هي وهما

الدكتور محمد سيد أحمد يكتب: نتنياهو وأوهامه الروحية الكبرى !

-


خرج علينا هذا الأسبوع وكعادته دائما ومنذ سنوات رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو وعبر مقابلة مع قناة ٢٤ الصهيونية ليقول أنه مرتبط جداً برؤية إسرائيل الكبرى، ويعتبر نفسه يقوم بمهمة تاريخية وروحية تمتد لأجيال من اليهود الذين حلموا بالمجيء إلى هذه الأرض، وتأتي التصريحات في ظل تصاعد العمليات العسكرية الصهيونية في غزة، والتهديد بمهاجمة قطاع غزة بالكامل، رغم المطالب الشعبية للمستوطنين الصهاينة بهدنة مؤقته وعقد صفقة لإطلاق سراح الأسرى، وهنا جاء التحول في الخطاب السياسي من أمني إلى ديني – أيديولوجي، يحاول من خلاله تعبئة القاعدة اليمينية المتشددة وتبرير التوجه نحو توسيع السيطرة على الأراضي الفلسطينية، بتذكير المستوطنين الصهاينة بتراثهم الديني التاريخي تحت اسم المهمة الروحية والجغرافية، وبذلك يمكنه تصعيد الحملة العسكرية وتجاهل نداءات السلام والإنسانية.

وكرد فعل على هذه التصريحات عبرت ٣١ دولة عربية وإسلامية، ومنظمات مثل الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي عن غضبها الشديد معتبرة هذه التصريحات "تهديداً للأمن القومي وللسيادة العربية وللشرعية الدولية" والغريب والعجيب حقاً هو ردة الفعل العربية والإسلامية وكأن العرب والمسلمين شعوباً وحكومات كانوا يعيشون في غيبوبة ولم يقرأون أو يسمعون تصريحات بنيامين نتنياهو من قبل، رغم أن تصريحاته ليست بجديدة وتردد منذ أواخر القرن التاسع عشر على ألسنة كل القادة الصهاينة قبل حتى أن يتم تنفيذ مشروعهم الاحتلالي للأرض العربية في فلسطين، .

وحتى لا يكون كلامي هنا مرسل واتهامات لا دليل عليها أحاول خلال السطور التالية تأكيد فكرتي التي لطالما أكدتها في مقالات عديدة في السنوات الأخيرة، فمنذ نشأة المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، لم يكن هدفه مجرد إقامة كيان سياسي لليهود على جزء من أرض فلسطين، بل ارتبط بفكرة أكبر وأوسع هي مشروع "إسرائيل الكبرى" الممتد من نهر النيل غرباً إلى نهر الفرات شرقاً، استنادًا إلى نصوص توراتية مزعومة، وتأكيدات متكررة من قادة الحركة الصهيونية وزعماء كيان الاحتلال عبر التاريخ، هذه الفكرة ليست شعارًا دينيًا فحسب، بل تحولت إلى عقيدة سياسية واستراتيجية توسعية لا تزال حاضرة في الخطاب السياسي الصهيوني حتى اليوم، وترتكز الفكرة على نص في سفر التكوين ( ١٨: ١٥) يقول: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"، وهذا النص اعتبر حجر الأساس لفكرة الأرض الموعودة، وهو ما جعل إسرائيل الكبرى جزءًا من العقيدة الدينية لليهود المتدينين، ثم جرى استغلاله سياسياً من قبل الحركة الصهيونية الحديثة لتبرير التوسع الاستعماري في فلسطين وما حولها.

وجاء أول استخدام للفكرة في كتابات ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية في مذكراته عام ١٨٩٧حيث قال: "حدود الدولة اليهودية تمتد من نهر مصر إلى نهر الفرات"، وفي مؤتمر فرساي عام ١٩١٩ أعلن حاييم وايزمان "نحن نطالب بفلسطين كلها، وأرضنا تمتد من لبنان شمالاً إلى العقبة جنوباً، ومن المتوسط غرباً إلى الصحراء شرقاً"، وفي عام ١٩٣٧ ذكر دافيد بن جوريون مؤسس الكيان "أن حدود إسرائيل ليست نهائية .. إن قيام الدولة لن يكون إلا مرحلة من مراحل تحقيق إسرائيل الكبرى"، وأعلنت غولدا مائير في عام ١٩٦٩ أن "هذه الأرض – أرض إسرائيل كاملة – هي لنا، ولم يحدث أن تركناها في يوم من الأيام"، وصرح آرييل شارون في عام ١٩٨١ أن "القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والحدود الطبيعية لأرض إسرائيل هي من النيل إلى الفرات"، وفي عام ١٩٨٢ أعلن مناحيم بيغن أن "أرض إسرائيل ستبقى لنا بكاملها، وهذه حدودنا من الفرات إلى النيل"، وحتى بنيامين نتنياهو ذاته ليست المرة الأولى التي يذكر فيها وهم إسرائيل الكبرى حتى ينتفض العرب والمسلمين للتنديد والشجب والادانة فقد ذكر في كتابه "مكان بين الأمم" الصادر في عام ١٩٩٣ أن "إسرائيل هي قلب الأرض الموعودة، ومن هنا تبدأ عودتنا إلى كامل أرض الأجداد"، وفي خطاباته المتكررة على مدار العامين الماضيين ومنذ بدء العدوان على غزة بعد عملية طوفان الأقصى أكد أكثر من مرة أن إسرائيل ليست مجرد دولة، بل "تحقيق للوعد الإلهي"، في إشارة واضحة لاستمرار حضور فكرة إسرائيل الكبرى.

ويتضح من ذلك أن الفكر الصهيوني يعتمد على دمج النصوص الدينية المزعومة مع مشاريع سياسية استعمارية، ما يجعل "إسرائيل الكبرى" عقيدة مقدسة في وعي الإسرائيليين المتدينين، وعملياً يتحول الدين هنا إلى أداة سياسية تستغل المشاعر الدينية لخدمة التوسع، فلم يسعى القادة الصهاينة منذ البداية إلى فرض حدودهم التوراتية الوهمية دفعة واحدة، بل اعتمدوا استراتيجية "التوسع المرحلي"، بدءًا من تثبيت كيان صغير في فلسطين ثم التوسع كلما سمحت الظروف، والمشروع الصهيوني ارتبط بالاستعمار البريطاني ثم الأمريكي، باعتباره أداة جيوسياسية للهيمنة على الشرق الأوسط الغني بالموارد، لذلك يجب على الشعوب والحكام العرب والمسلمين الذين فوجئوا بتصريحات نتنياهو وأوهامه الروحية أن يدركوا أن فكرة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات لم تكن شعاراً عابراً، بل مشروعاً متأصلاً في الفكر الصهيوني منذ هرتزل وحتى نتنياهو، تارة تُطرح علناً عبر تصريحات رسمية، وتارة تُخفى تحت ذرائع الأمن والسلام، لكنها تظل البوصلة العقائدية للحركة الصهيونية، لذلك فعلى الجميع أن يتحرك ويتصرف في ضوء أن الصراع مع العدو الصهيوني ليس صراع حدود فقط، بل هو صراع وجود مع مشروع توسعي عقائدي، يهدف إلى ابتلاع المنطقة بأكملها تحت مسمى "الوعد الإلهي"، نقول ذلك قبل أن تتحول أوهام نتنياهو الروحية الكبرى لواقع ملموس، اللهم بلغت اللهم فاشهد.