الدكتور أحمد عبود يكتب: ولادة الصهيونية الحديثة على يد هرتزل

كما سبق سردة في سلسله مقالاتي اسرائيل من البدايه عن الجذور الدينيه لشعب الله المختا ر نستكمل المقال عن الصهيونيه الحديثه
بينما كانت أوروبا تعيش في القرن التاسع عشر موجات من التغيرات السياسية والاجتماعية الكبرى، كان اليهود - رغم اندماج بعضهم في المجتمعات الغربية - لا يزالون يعانون من التهميش والكراهية والاضطهاد، خاصة في أوروبا الشرقية. في هذا السياق ظهر رجل سيغير مجرى التاريخ: تيودور هرتزل، الأب الروحي للحركة الصهيونية.
هرتزل لم يكن حاخامًا ولا متدينًا، بل كان صحفيًا علمانيًا نمساويًا من أصول يهودية، لكنه كان شديد الذكاء، وقرأ الواقع الأوروبي قراءة دقيقة. أدرك أن أوروبا، التي لم تنجح في "دمج اليهود"، قد ترحب بفكرة التخلص منهم بشرط أن تكون "بشكل حضاري". ومن هنا، ولدت الصهيونية الحديثة.
من الاندماج إلى الانفصال
في البداية، كانت بعض النخب اليهودية تحاول الاندماج في المجتمعات الأوروبية، لكن تزايد الحقد الشعبي ضد اليهود، خصوصًا بعد قضية "دريفوس" الشهيرة في فرنسا – وهي قضية اتهام ضابط يهودي بالخيانة زورًا – جعلت هرتزل يوقن أن "اليهود لا مستقبل لهم في أوروبا".
وهنا كتب كتابه الشهير "الدولة اليهودية" عام 1896، ليقترح فيه بشكل "لم يكن الأمر دينيًا في جوهره، بل كان مشروعًا سياسيًا استيطانيًا مغلفًا بالدين، يستثمر في الشعور الجمعي بالاضطهاد، ويقدم نفسه كحلٍ منقذ لليهود، وكحلٍ مريح لأوروبا التي تريد التخلص من "المشكلة اليهودية".
المؤتمر الصهيوني الأول.. ساعة الصفر
في عام 1897، نظّم هرتزل المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وحضره ممثلون عن الجاليات اليهودية في العالم.
وبالفعل، وبعد 51 عامًا، تم إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948.
في هذا المؤتمر، وُضعت الخطوط العريضة للمشروع الصهيوني:
جمع يهود الشتات
إنشاء منظمة صهيونية عالمية
السعي لتأسيس وطن قومي لليهود
اختيار "فلسطين" كموقع مثالي للدولة المنشودة
لماذا فلسطين تحديدًا؟
رغم أن هرتزل – في بداية الأمر – لم يكن متمسكًا بفلسطين تحديدًا (وقد عُرضت عليه أوغندا وبعض المناطق في الأرجنتين)، إلا أن التيار الديني داخل الحركة الصهيونية، ومعظم الجاليات اليهودية، أصرّوا على "أرض الميعاد".
وفلسطين، من منظورهم، ليست مجرد موقع جغرافي، بل نقطة التقاء بين الخرافة الدينية والمصلحة السياسية. فوجودهم فيها يمنح مشروعهم غطاءً دينيًا توراتيًا، ويمنح الغرب "ذريعة أخلاقية" لدعمه، بوصفه "تحقيقًا لنبوءات الكتاب المقدس".
الصهيونية... أكثر من مجرد حلم يهودي
الصهيونية الحديثة، كما رسمها هرتزل، لم تكن فقط حركة لتجميع اليهود، بل مشروعًا استعماريًا أوروبيًا كاملًا، يتلاقى مع مصالح بريطانيا وفرنسا لاحقًا، ليصبح قاعدة متقدمة في قلب العالم العربي والإسلامي.
وقد بدأ هرتزل فورًا في طرق أبواب القادة الأوروبيين، يطلب منهم الدعم والموافقة، مؤكدًا أن "دولة اليهود" ستكون حليفًا قويًا للغرب، وخط دفاع أمامي في مواجهة المسلمين والشرقيين.
وهكذا، تأسست الحركة الصهيونية على ثلاث دعائم:
1. شعور بالاضطهاد
2. وعد ديني مختلق
3. تحالفات استراتيجية مع القوى العظمى
ولم يتبقَ إلا أن تأتي اللحظة المناسبة لإعطاء هذا المشروع غطاءً قانونيًا وسياسيًا دوليًا.
وهنا يظهر وعد بلفور، الذي أصدرته بريطانيا عام 1917، بوعد صريح بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لتبدأ مرحلة التنفيذ العملي، على حساب الأرض، والهوية، والشعب الفلسطيني.
وإلى اللقاء في المقال الثالث: وعد بلفور